تفرض علينا الأحداث في المدارس والمعاهد العود للتنبيه على فشل هذه المنظومة التربوية التعليمية في تونس ومنذ انطلاقنها في بداية ثمانينات القرن الماضي حيث كان التشخيص خاطئا ونسب فشل ما سبق من تجارب إلى قصور المدرّس في تأدية واجبه واعتباره ملقّنا للعلوم لا منشّطا للدّرس وهكذا بنيت أسس المنظومة من خلال مهاجمة المدرّس والتّقليل من شأنه وفي نفس الوقت رفعت مرتبة التّلميذ والوليّ إلى درجة أرفع من مدرّسه وهو ما جعل المدرّس يحشر في زاوية وتوجّه كلّ السّهام تجاهه دون أيّ تضامن أو شفقة من أحد، لا إدارة محليّة ولا إدارة جهويّة ولا حتّى نظرة من أعلى هرم السّلطة رغم تعاقب أنظمة مختلفة على الحكم خاصّة منذ 2011 وتولّي عدد كبير من الوزراء من مشارب مختلفة الإشراف على دواليب هذه الوزارة، المشكل كما بيّناه في كتابات سابقة مركّب ومعقّد ومتداخل وما علينا سوى تفريق الأسباب المؤدية إلى هذا الفشل ودراستها كلّ بشكل منفرد وإيجاد الحلول لها ثمّ ادماجها في تصوّر جامع لأعادة تشكيل المشهد التربوي التعليمي التونسي لا إصلاحه لأنه لامس القاع واستقرّ عليه.
لن يختلف معنا أحد في تقييم المشهد التربوي من خلال فشله في الوصول إلى الأهداف التي وضعت من أجلها البرامج وأوّل الشّاهدين على هذا الفشل الوزيرة السابقة للتربية السيّدة سلوى العباسي بن علي والتي تقلّدت الوزارة لفترة قصيرة نسبيا وأعتقد حقيقة من وجهة نظري أنها قامت ببعض الإصلاحات الهيكليّة وفق تصورنا نحن لإعادة تركيب المشهد التربوي التعليمي التونسي من خلال منشورين على الأقل أحدهما إحداث قسم سنة أولى ثانوي فنون بكل مندوبية جهوية للتربية والثّاني التشجيع على التحاق الراسبين والمتسرّبين في السنوات السابعة والسادسة ابتدائي بقسم السابعة تكوين مهني وسنرجع لهذا لاحقا بالتحليل في هذا الموضوع.
وقد تولّت السّيدة سلوى متفقدة التعليم الثانوي نشر تدوينات تضامن مع المربين مفادها: "صباح النور التضامني المطلق مع السادة المربين ضدّ ما يطالهم من عنف وتنمّر فبالمعلّم تبنى الأمم" بعد بلوغها خبر انتحار أستاذ التّفكير الاسلامي الزّميل فاضل جلّولي رحمه الله.
الأستاذ احترق داخليا بهذا الفشل التربوي خصوصا ثم أحرق جسده ليكرّس مبدأ "النّار ولا العار" بعدما لحقه من سوء معاملة وتدنيس صورة المربي من طرف كل المتداخلين في الشأن التربوي بداية من التّلاميذ ثمّ إدارة المعهد فالأولياء والمجتمع وبعد رفع شكاية ضدّه من وليّ التلميذ تدخّل القضاء بكلّ درجاته من باحث بداية ومجلس قضاء لتلتحق الإدارة الجهوية للتربية بركب الخصوم ليحال للإستجواب، فهل مازال بعد هذا الهوان هوان؟؟؟
هذه الواقعة التي هزّت الوسط التربوي/ التعليمي التونسي أطبقت بالحزن على كافة المربين بكل المستويات التعليمية من ابتدائي واعدادي وثانوي ودفعت بعض المربين والنقابيين لمقاطعة التدريس كمدا وتضامنا مع من كان زميلهم ومع أنفسهم أوّلا لأنّهم يعلمون أنّ أستاذا للتفكير الإسلامي ما كان بالسّهل له وهو الذي أفنى جزءا كبيرا من عمره يلقّن النّاس والتّلاميذ خصوصا بحرمة النّفس وتحريم الاعتداء عليها، لكن والأكيد أن الضغط كان أكبر من قناعاته وصبره وتحمّله وهذا ما دعى إحدى زميلاته برثائه بهذه الكلمات المشتعلة نارا كالنار التي التهمت جسده وأذهبت روحه:"صديق الثانوي بمعهد ابو القاسم الشابي وجليس طاولتي .وجمعتنا سنوات دراسة فرقتنا الباكالوريا كل منا اختار مصيره ...وبعد زمن التقينا زملاء بنفس الاخوة بنفس المودة بنفس هدوء الفاضل واتزانه ..بنفس ابتسامته المحتشمة بنفس كلماته القديمة حين يخاطبني (سعاد اختي ) درس عنده ابنائي وهذه السنة يدرس عنده ابني الصغير ...الفاضل ماكان رجل سوء ...ماكان عبثيا ...ماكان يوما مستهترا ...ما عهدته ضعيفا ولا جبارا ولا متكبرا ...ماذا اقول عنك يافاضل ...من قصر فينا في حق الٱخر هل انت ام انا ام نحن جميعا ...ليتك عبرت لنا عن احتراقك الداخلي قبل احتراق جسدك ...وليتنا اقتحمنا خفايا صدرك وهونا عليك حجم ما احسست به من مرارة الذل والهوان وأنت الحر والمحرر ...لم يخطر ببال احد أنك استسلمت للنهاية قبل بدايتها ...ولا خامرتنا ذرة شك انك سئمت الوضع وسئمت النفاق وسئمت القيود وسئمت انقلاب الموازين ومعايير الاخلاق وانت من يدرس مادة الاخلاق واصول الدين ...كيف يئست من محاربة الجهل ...كيف طغت عليك رذيلة الواقع ورداءته ...يافاضل كيف ارثيك وقد اردتك القيم الخاوية ...وقتلك اليأس والإحباط والمنفى ....منفى المربي في بؤرة التمزق بين الفضيلة والرذيلة ...لا سيما واننا في وزارة التربية قبل التعليم ...هل ننساق إلى أخلاق الجيل المتدنية ونسايرهم فيها ...او نقاوم لنغادر كما غادرت يافاضل ...او نملي ما يمليه علينا برنامج التعليم ونغادر صامتين كأننا روبوتات ...سريعا غادرت يافاضل ..لم غادرت ولم تودع ...ولم تلمح ...ولم ترأف بنفسك وبقلوبنا التي تحبك ...يافاضل لقد انحرف سلك التعليم عن سكته منذ زمن بعيد ...ماضرك لو صمدت كباقي الصامدين ...ولأنك رجل ...ولانك شهم ...ولأنك حر ...ولأنك مؤمن بقيمك اخترت النار ولا العار ...بقي العار لمن ٱمن به ...رحمك الله وغفر لك ....الوداع"
تعليقك يهمنا